رئيس بيوت الشباب المصرية
في أرشيف بيوت الشباب روايات ليست عابرة، ولا تشبه غيرها؛ روايات تحمل في سطورها شرفًا لا يتغيّر، وكبرياء يليق بمصر، ودروسًا تكبر مع الزمن بدلاً من أن تبهت. ومن بين هذه الصفحات النادرة، حكى لى أستاذي اللواء أحمد رفعت مكاوي، ثامن رئيس منتخب للجمعية، عن واحدة من أكثر اللحظات وطنية ونضجًا التي صنعتها مجموعة رجال حملوا مصر في قلوبهم… حتى وهم على بُعد آلاف الأميال.
كانت الحكاية في صيف عام 1968، حين استضافت اليابان المؤتمر الدولي السابع والعشرين لبيوت الشباب، وهو أول مؤتمر يُعقد خارج أوروبا منذ تأسيس الاتحاد. كانت البلاد آنذاك تعيش بين أوجاع النكسة وإرادة النهوض، فيما سافرت بعثة الجمهورية العربية المتحدة — مصر وسوريا — برئاسة الأميرالاى حسين مصطفى وعضوية الأستاذ أحمد العسكري، تحمل في حقيبتها شيئًا أثمن من الوثائق… تحمل شرف مصر كله.
وفى المقابل، حضر الوفد الإسرائيلي بأعداد كبيرة، وآلات دعائية مجهّزة، وحضور صاخب يحاول تعويض الهزيمة الأخلاقية والعسكرية التي أخفاها تحت مظاهر القوة والادعاء. لكن المفارقة التي سجّلها التاريخ بوضوح:
أن الوفد الأكبر لم يكن الأقوى، بل كان الأضعف روحًا وموقفًا.
المعركة الأولى: حين حاولت الدعاية أن تنتصر على الأخلاق
بدأت إسرائيل أولى محاولاتها بمحاولة تحويل قاعة المؤتمر إلى منصة دعاية سياسية وفنية تخدم روايتها. كانت محاولة مكشوفة، تتعارض مع دستور الاتحاد الدولي القائم على السلام وروح التعايش. هنا وقف الوفد المصري بثبات، لا يصرخ ولا يزايد، بل يتحرك بحكمة ووعي.
استطاع الوفد — في مشهد نادر من الدبلوماسية الهادئة — أن يحرك مشاعر عشرات الوفود، وأن يوقظ ضمائر كانت معتادة على الصمت أو الحياد. كانت النتيجة موجة استياء واسعة تجاه الانفلات الإسرائيلي، وصلت حتى الدول التي عادةً تقدم له الدعم في المحافل الدولية.
وتحت هذا الضغط الأخلاقي والموقف الجماعي، اضطر رئيس الوفد الإسرائيلي إلى الانسحاب من الانتخابات بعد حصوله على خمسة عشر صوتًا فقط… خمسة عشر صوتًا كشفت حجمه الحقيقي، بعيدًا عن الضجيج والاستعراض.
المعركة الثانية: بيت شباب شرم الشيخ… هوية لا تُنتزع
لم تكتفِ إسرائيل بخسارة المشهد الأول، فتقدّمت بطلب إلى الاتحاد الدولي لتسجيل بيوت شباب أقامتها على أراضٍ عربية محتلة بعد عدوان 1967، كان من بينها بيت أقامته في شرم الشيخ.
هذا البيت — الذي لا يزال حتى اليوم تحت حيازة الجمعية المصرية — يتميز بطرازه المعماري شديد التحصين، بخراساناته السميكة ونوافذه المدفونة، كأنه شاهد مبني بالحجارة على زمن الاحتلال.
وقف الوفد المصري مرة أخرى، لا يدافع عن مبنى، بل عن حق. وأقنع الاتحاد الدولي برفض الطلب نهائيًا، ليظل بيت شباب شرم الشيخ عربيًا مصريًا بلا منازع. وليبقى البيت — بملامحه الخشنة — شاهدًا على جملة واحدة:
قد يقتحم الاحتلال الأرض… لكنه لا يستطيع أن ينتزع الهوية.
المعركة الثالثة: محاولة عزل العرب عام 1972
بلغ التحدي ذروته حين تقدمت إسرائيل بطلب استضافة المؤتمر الدولي التاسع والعشرين عام 1972.
كانت — كما وصفها من عاشوا الحدث — محاولة مسمومة الهدف منها إخراج العرب من الصف، وإحراج جمعياتهم، وتحويل الاتحاد الدولي إلى منصة أحادية الصوت.
لكن الوفد المصري تصدى للمحاولة بشجاعة سياسية وحنكة تنظيمية. جمع تحالفًا واسعًا من الدول، قاد موقفًا مضادًا، وواجه الطلب بوضوح وجرأة… فسقط الطلب، وسقط معه مخطط الإقصاء.
حين يكمل التاريخ ما بدأه الرجال
تنتهي الرواية عند هذا الحد كما وصلتني، لكن التاريخ أكمل ما بدأه هؤلاء الرجال.
فبعد خمس سنوات فقط، كان نصر أكتوبر 1973، وعادت الأرض، وعاد بيت شباب شرم الشيخ إلى حضن الوطن، وسُجِّل رسميًا كبيت مصري عربي دولي.
وبعد عقود قليلة، عاد الزمن ليُنصفهم مرة أخرى، حين نجحت الجمعية — بقيادة اللواء أركان حرب مهندس أحمد رفعت مكاوي — في استضافة المؤتمر الدولي السابع والثلاثين بالقاهرة عام 2008، لتكون مصر أول دولة عربية تنال هذا الشرف… شرف لم تنله إسرائيل حتى اليوم، ولا يبدو أنها ستناله ما دامت العيون العربية ثابتة والضمائر حيّة.
هذه ليست حكاية وفد شارك فى مؤتمر… هذه حكاية مصر
حكاية رجال وقفوا في اليابان، فارتفع معهم وجه مصر.
حكاية مؤسسة وطنية ظلت — عبر أجيال من رؤسائها وقادتها — صفحة مشرفة في سجل الوطن، تكتب حضورها في الداخل كما في الخارج، وتؤكّد أن مصر لا تغيب… ما دام أبناؤها يعرفون كيف يقفون وقت الوقوف.
وللحديث بقية ،،،
بقلم: أشرف علي عثمان
رئيس جمعية بيوت الشباب المصرية